فصل: سنة أربع ومائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة أربع ومائة:

.ذكر الوقعة بين الحرشي والصغد:

قيل: وفي هذه السنة غزا الحرشي فقطع النهر وسار فنزل في قصر الريح على فرسخين من قيل: وفي هذه السنة غزا الحرشي فقطع النهر وسار فنزل في قصر الريح على فرسخين من الدبوسية، ولم يجتمع إليه جنده، فأمر بالرحيل، فقال له هلال بن عليم الحنظلي: يا هناه إنك وزيراً خير منك أميراً، لم يجتمع إليك جندك وقد أمرت بالرحيل. فعاد فأمر بالنزور، وأتاه ابن عم ملك فرغانة فقال له: إن أهل الصغد بخجندة، وأخبره بخبرهم، وقال: عاجلهم قبل أن يصلوا إلى الشعب فليس لهم جوار علينا حتى يمضي الأجل. فوجه معه عبد الرحمن القشيري وزياد بن عبد الرحمن في جماعة، ثم ندم بعدما فصلوا وقال: جائني علج لا أعلم أصدق أم كذب، فغررت بجندٍ من المسلمين؛ فارتحل في أثرهم حتى نزل أشروسنة فصالحهم بشيء يسير.
فبينا هو يتعشى إذ قيل له هذا عطاء الدبوسي، وكان مع عبد الرحمن، فسقطت اللقمة من يده، ودعاء بعطاء فقال: ويلك قاتلتم أحداً؟ قال: لا. قال: لله الحمد! وتعشى وأخبره بما قدم له، فسار مسرعاً حتى لحق القشيري بعد ثلاثة أيام، وسار فلما انتهى إلى حجندة قال له بعض أصحابه: ما ترى؟ قال: أرى المعالجة. قال: لا أرى ذلك، إن جرح رجل فإلى أين يرجع، وأقتل قتيل فإلى من يحمل؟ ولكني أرى النزول والتأني والاستعداد للحرب. فنزل فأخذ في التأهي، فلم يخرج أحد من العدو، فجبن الناس الحرشي وقالوا: كان يذكر بشجاعة وديانة، فلما صار بالعراق ماق. فحمل رجل من العرب فضرب باب خجندة بعمود ففتح الباب، وكانوا حفروا في ربضهم وراء الباب الخارج خندقاً وغطوه بقصب وتراب مكيدة، وأرادوا أذ التقوا إن انهزموا كانو قد عرفوا الطريق ويشكل على المسلمين ويسقطون في الخندق، فلما خرجوا قاتلوهم فانهزموا، وأخطأهم الطريق فسقطوا في الخندق، وأخرج منهم المسلمون أربعين رجلاً. وحصرهم الحرشي ونصب عليهم المحانيق. فأرسلوا إلى ملك فرغانة: غنك غدرت بنا، وسألوه أن ينصرهم، فقال: قد أتوكم قبل انقضاء الأجل، ولستم في جواري. فطلبوا الصلح وسألوا الأمان وأن يردهم إلى الصغد، واشترط عليهم أن يردوا ما في أيديهم من نساء العرب ودراريهم وأن يؤدوا ما كسروا من الخراج ولا يغتالوا أحداً ولا يتخلف منهم بخجندة أحد، فإن أحدثوا حدثاً حلت دامؤهم.
فخرج إليهم الملوك والتجار من الصغد، وترك أهل خجندة على حالهم، ونزل عظماء الصغد على الجند الذين يعرفونهم، ونزل كارزنج على أيوب بن أبي حسان. وبلغ الحرشي أنهم قتلوا امرأة ممن كان في أيديهم، فقال: بلغني أن ثابتاً قتل امرأة ودفنها، فجحد، فسأل فإذا الخبر صحيح، فدعا بثابت إلى خيمته فقتله، فلما سمع كارزنج بقتله خاف أن يقتل وأرسل إلى ابن أخيه ليأتيه بسراويل، وكان قد قال لابن أخيه: إذا طلبت سراويل فاعلم أنه القتل، فبعث به إليه وخرج واعترض الناس فقتل ناساً، وتضعضع العسكر ولقوا منه سراً، أنهى إلى ثابت بن عثمان بن مسعود فقتله ثابت.
وقتل الصغد أسرى عندهم من المسلمين مائة وخمسين رجلاً، فأخبر الحرشي بذلك، فسأل فرأى الخبر صحيحاً، فأمر بقتلهم وعزل التجار عنهم، فقاتلهم الصغد بالخشب، ولم يكن لهم سلاح، فقتلوا عن آخرهم، وكانوا ثلاثة آلاف، وقيل سعة آلاف، واصطفى أموال الصغد وذراريهم، وأخذ منها ما أعجبه، ثم دعا ملسم بن بديل العدوي عدي الرباب وقال: وليتك المقسم. فقال: بعدما عمل فيه عمالك ليلة! وله غيري، فولاه غيره. وكتب الحرشي إلى يزيد بن عبد الملك ولم يكتب إلى عمر بن هبيرة، فكان هذا مما أوغر صدره عليه؛ وقال ثابت قطنة يذكر ما أصابوا من عظمائهم:
أقر العين مصرع كارزنج ** وكشكير وما لاقى يباد

وديوشتى وما لاقى خلنج ** بحصن خجند إذا دمروا فبادروا

يقال: إن دويشتى دهقان سمرقند، واسمه ديو أشنج فأعربوه، وقيل: كان على أقباض خجندة علباء بن أحمر اليشكري، فاشترى رجل منهم جونة بدرهمين فوجد فيها سبائك ذهب فرجع وقد وضع يده على وجهه كأنه رمد فرد الجونة وأخذ الدرهمين، فطلب لم يعرف.
وسرح الحرشي سليمان بن أبي السري إلى حصن لا يطيف به وادي الصغد إلا من وجه واحد ومعه خوارزمشاه وصاحب آخرون وشومان، فسير سليمان على مقدمته المسيب بن بشر الرياحي، فتلقوه على فرسخ، فهزمهم حتى ردهم إلى حصنهم فحصرهم، فطلب الديوشتى أن ينزل على حكم الحرشي فسيره إليه فأكرمه، وطلب أهل القلعة الصلح على أن لا يتعرض لنسائهم زراريهم ويسلمون القلعة. فبعث سليمان إلى الحرشي ليبعث الأمناء لقبض ما في القلعة، فبعث من قبضه وباعوه وقسموه.
وسار الحرشي إلى كش وصالحوه على عشرة آلاف رأس، وقيل ستة آلاف رأس. وسار إلى زلرنج، فوافاه كتاب ابن هبيرة بإطلاق ديوشتى، فقتله وصلبه وولى نصر بن سيار قبض صلح كش، واستعمل سليمان بن أبي السري على كش ونسف حربها وخراجها. وكانت خزائن منيعة، فقال المجشر للحرشي: ألا أدلك على من يفتحها لك بغير قتال؟ قال: بلى. قال: المسربل بن الخريت بن راشد الناجي، فوجهه إليها، وكان صديقاً لملكها، واسم الملك سبغرى، فأخبر الملك بما صنع الحرشي بأهل خجندة وخوفه، قال: فما ترى؟ قال: أن تنزل بأمان. قال: فما أصنع بمن لحق بي؟ قال: تجعلهم في أمانك؛ فصالحهم فأمنوه وبلاده ورجع الحرشي إلى بلاده ومعه سبغرى، فقتل سبغرى وصلب ومعه الأمان.

.ذكر ظفر الخزر بالمسلمين:

في هذه السنة دخل جيش للمسلمين بلاد الخزر من أرمينية وعليهم ثبيت النهراني، فاجتمعت الخزر في جمع كثير وأعانهم قفجان وغيرهم من أنواع الترك فلقوا المسلمين في مكان يعرف بمرج الحجارة فاقتتلوا هنالك قتالاً شديداً، فقتل من الملمين بشر كثير واحتوت الخزر على عسكرهم وغنموا جميع ما فيه، وأقبل المنهزمون إلى الشام فقدموا على يزيد بن عبد الملك وفيهم قبيت، فوبخهم يزيد على الهزيمة فقال: يا أمير المؤمنين ما جبنت ولا نكبت عن لقاء العدو ولقد لصقت الخيل بالخيل والرجل بالرجل، ولقد طاعنت حتى انقصف رمحي، وضاربت حتى انقطع سيفي، غير أن الله، تبارك وتعالى، يفعل ما يريد.

.ذكر ولاية الجراح أرمينية وفتح بلنجر وغيرها:

لما تمت الهزيمة المذكورة على المسلمين طمع الخزر في البلاد فجمعوا وحشدوا، واستعمل يزيد بن عبد الملك الجراح بن عبد الله الحكمي حينئذ على أرمينية وأمده بجيش كثيف وأمره بغزو الخزر وغيرهم من الأعداء وبقصد بلاده. فسار الجراح، وتسامع الخزيرية فعادوا حتى نزلوا بالباب والأبواب، ووصل الجراح إلى برذعة فأقام حتى استراح هو ومن معه سار نحو الخزر فعبر نهر الكر، فسمع بأن بعض من معه من أهل تلك الجبال قد كاتب ملك الخزر يخبره بمسير الجراح إليه، فحينئذ أمر الجراح مناديه فنادى في الناس: إن المير مقيم ها هنا عدة أيام فاستكثروا من الميرة، فكتب ذلك الرجل إلى ملك الخزر يخبره أن الجراح مقيم ويشير عليه بترك الحركة لئلا يطمع المسلمون فيه.
فلما كان الليل أمر الجراح بالرحيل، فسار مجداً حتى انتهى إلى مدينة الباب والأبواب فلم ير الخزر، فدخل البلد فبث سراياه في النهب والغارة على ما يجاوره، فغنموا وعادوا من الغد، وسار الخزر إليه وعليهم ابن ملكهم فالتقوا عند نهر الران واقتتلوا قتالاً شديداً، وحرض الجراح أصحابه، واشتد القتال، فظفروا بالخزر وهزموهم وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فقتل منهم خلق كثير، وغنم المسلمون جميع ما معهم وساروا حتى نزلوا على حصن يعرف بالحصين فنزل أهله بالأمان على مال يحملونه، فأجابهم ونقلهم عنها.
ثم سار إلى مدينة يقال لها يرغوا، فأقام عليها ستة أيام، وهو مجد في قتلهم، فطلبوا الأمان، فأمنهم وتسلم حصنهم ونقلهم منه.
ثم سار الجراح إلى بلنجر، وهو حصن مشهور من حصونهم، فنازله، وكان أهل الحصن قد جمعوا ثلاثمائة عجلة فشدوا بعضها إلى بعض وجعلوها حول حصنهم ليحتموا بها وتمنع المسلمين من الوصول إلى الحصن، وكانت تلك العجل أشد شيء على المسلمين في قنالهم. فلما رأوا الضرر الذي عليهم منها انتدب جماعة منهم نحو ثلاثين رجلاً وعاهدوا على الموت وكسروا جفون سيوفهم وحملوا حملة رجل واحد وتقدموا نحو العجل، وجد الكفار في قتالهم ورموا من النشاب ما كان يحجب الشمس فلم يرجع أولئك حتى وصلوا إلى العجل وتعلقوا ببعضها وقطعوا الجبل الذي يمسكها وجذبوها فانحدرت، وتبعها سائر العجل لأن بعضها كان مشدوداً إلى بعض وانحدر الجميع إلى المسلمين والتحم القتال واشتد وعظم الأمر على الجميع حتى بلغت القلوب الحناجر.
ثم إن الخزر انهزموا واستولى المسلمون على الحصن عنوة وغنموا جميع ما فيه في ربيع الأول فأصاب الفارس ثلاثمائة دينار، وكانوا بضعة وثلاثين دينار، وكانوا بضعة وثلاثين ألفاً.
ثم إن الجراح أخذ أولاد صاحب بلنجر وأهله وأرسل إليه فأحضره ورد إليه أمواله وأهله وحصنه وجعله عيناً لهم يخبرهم بما يفعله الكفار.
ثم سار عن بلنجر فنزل على حصن السويدر، وبه نحو أربعين ألف بيت من الترك، فصالحوا الجراح على مال يؤدونه. ثم إن أهل تلك البلاد تجمعوا وأخذوا الطرق على المسلمين، فكتب صاحب بلنجر إلى الجراح يعلمه بذلك. فعاد مجداً حتى وصل إلى رستاق ملى وأدركهم الشتاء، فأقام المسلمون به، وكتب الجراح إلى يزيد بن عبد الملك يخبره بما فتح الله عليه وبما اجتمع من الكفار ويسأله المدد. فوعده إنفاذ العساكر إليه، فأدركه أجله قبل إنفاذ الجيش، فأرسل هشام بن عبد الملك إلى الجراح فأقره على عمله ووعده المدد.

.ذكر عزل عبد الرحمن بن الضحاك عن المدينة ومكة:

وفي هذه السنة عزل يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن الضحاك عن المدينة ومكة، وكان عامله عليهما ثلاث سنين، وولى عبد الواحد النضري.
وكان سبب ذلك أن عبد الرحمن خطب فاطمة بنت الحسين بن علي فقالت: ما أريد النكاح ولقد قعدت على بني هؤلاء. فألح عليها وقال: لئن لم تفعلي لأجلدن أكبر بنيك في الخمر، يعني عبد الله بن الحسن بن الحسين ابن علي، وكان على الديوان بالمدينة ابن هرمز، رجل من أهل الشام، وقد رفع حسابه ويريد أن يسير إلى يزيد، فدخل على فاطمة يودعها فقال: هل من حاجة؟ فقالت: تخبر أمير المؤمنين بما ألقى من ابن الضحاك وما يتعرض مني؛ وبعثت رسولاً بكتابك إلى يزيد بخبره بذلك.
وقدم ابن هرمز على يزيد، فاستخبره عن المدينة وقال: هل من مغربة خبر؟ فلم يذكر شأن فاطمة. فقال الحاجب ليزيد: بالباب رسول من فاطمة بنت الحسين. فقال أبن هرمز: إنها حملتني رساةً إليك. وأخبره بالخبر. فنزل من فراسه وقال: لا أم لك! عندك هذا ولا تخبرنيه؟ فاعتذر بالنسيان؛ وأذن لرسولها فأدخله وأخذ الكتاب فقرأه وجعل يضرب بخيزران في يده ويقول: لقد اجترأ ابن الضحاك، هل من رجل يسمعني صوته في العذاب؟ قيل له: عبد الواحد بن عبد الله النضري. فكتب بيده إلى عبد الواحد: قد وليتك المدينة فاهبط إليها واعزل عنها ابن الضحاك وأغرمه أربعين ألف دينار وعذبه حتى أسمع صوته وأنا على فراشي.
وسار البريد بالكتاب ولم يدخل على ابن الضحاك، فأخبر ابن الضحاك، فأحضر البريد وأعطاه ألف دينار ليخبره خبره، فسار ابن الضحاك مجداً فنزل على مسلمة بن عبد الملك فاسجاره، فحضر مسلمة عنه يزيد فطلب إليه حاجة خاله، فقال: كل حاجة خاله، فقال: كل حاجة فهي لك إلا ابن الضحاك. فقال: هي والله ابن الضحاك. فقال: والله لا أعفيه أبداً. وردة إلى المدينة إلى المدينة إلى عيد الواحد، فعذبه ولقي شراً، ثم لبس جبة صوف يسأل الناس.
وكان قدوم النضري في شوال سنة أربع ومائة. وكان ابن الضحاك قد آذى الأنصار طراً، فهجاه الشعراء وذمه الصالحون، ولما وليهم النضري أحسن السيرة فأحبوه، وكان خيراً يستشير فيما يرد فعله القاسم بن محمد وسالم ابن عبد الله بن عمر.

.ذكر ولادة أبي العباس السفاح:

وقيل: وفيها ولد أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن محمد بن علي في ربيع الآخر، وهو السفاح، ووصل إلى أبيه محمد بن علي أبو محمد الصادق من خراسان في عدة من أصحابه، فأخرج إليهم أبا العباس في خرقة وله خمسة عشر يوماً وقال لهم: هذا صاحبكم الذي يتم الأمر على يده فقلبوا أطرافه، وقال لهم: والله ليتمن الله هذا الأمر حتى تدركوا ثأركم من عدوكم.

.ذكر عزل سعيد الحرشي:

وفي هذه السنة عزل بن هبيرة سعيداً الحرشي عن خراسان وولاها مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي.
وكان السبب في ذلك ما كان كتبه ابن هبيرة إلى الحرشي بإطلاق الديوشتى فقتله، وكان يستخف بابن هبيرة ويذكره بأبي المثنى ولا يقول الأمير فيقول: قال أبو المثنى، وفعل أبو المثنى، فبلغ ذلك ابن هبيرة فأرسل جميل بن عمران ليعلم حال الحرشي، وأظهر أنه ينظر في الدواوين، فلما قدم على الحرشي قال: كيف أبو المثنى؟ فقيل له: إن جميلاً لم يقدم إلا ليعلم علمك. فسم بطيخة وبعث بها إليه فأكلها ومرض وسقط شعره، ورجع إلى ابن هبيرة وقد عولج فصح، فقال له: الأمر أعظم مما بلغك، ما يرى الحرشي إلا أنك عامل له؛ فغضب وعزله ونفح في بطنه النمل وعذبه حتى أدى الأموال.
وسمر ليلة ابن هبيرة فقال: من سيد قيس؟ فقالوا: الأمير. قال: دعوا هذا، سيد قيس الكوثر بن زفر، لوثور بليل لوافاه عشرون ألفاً لا يقولون لم دعوتنا، وفارسها هذا الحمار الذي في الحبس وقد أمرت بقتله، يعني الحرشي، فأما خير قيس لها فعسى أن أكونه. فقال له أعرابي من بني فزارة: لو كنت كما تقول ما أمرت بقتل فارسها. فأرسل إلى معقل بن عروة أن كف عن قتله، وكان قد لسمه إليه ليقتله وكان ابن هبيرة لما ولى مسلم ابن سعيد خراسان أمره بأخذ الحرشي وتقيده وانفاذ إله، فقدم مسلم دار الإمارة فرأى الباب مغلقاً، فقيل للحرشي: قدم مسلم، فأرسل إليه: أقدمت أميراً أو وزيراً أو زائراً؟ فقال: مثلي لا يقدم زائراً ولا وزيراً. فأتاه الحرشي فشتمه وقيده وأمر بحبسه، ثم أمر صاحب الحبس أن يزيده قيداً، فأخبر الحرشي بذلك فقال لكاتبه: اكتب إليه إن صاحب سجنك ذكر أنك أمرته أن يزيدني قيداً، فإن كان أمراً ممن فوقك فسمعاً وطاعة، وإن كان رأياً رأيته فسيرك الحقحقة! وهي أشد السير؛ وتمثل:
فإما تثقفوني فاقتلوني ** ومن يثقف فليس له خلود

هم الأعداء إن شهدوا وغابوا ** أولو الأحقاد والأكباد سود

فلما هرب ابن هبيرة عن العراق أرسل خالد القسري في طلب الحرشي فأدركه على الفرات، فقال: ما ظنك بي؟ قال: ظني بك أنك لا تدفع رجلاً من قومك إلى رجل من قيس. فقال: هو ذاك.

.ذكر عدة حوادث:

وحج بالناس هذه السنة عبد الواحد بن عبد الله النضري، وعلى العراق والمشرق عمر بن هبيرة. وعلى الكوفة حسين بن حسن الكن. وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى.
وفيها مات أبو قلابة الجرمي، وقيل سنة سبع ومائة.
وفيها مات أبو قلابة الجرمي، وقيل سنة سبع ومائة. وعبد الرحمن بن حسان بن ثابت النصاري. وفيها توفي يحيى ابن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة. وفيها مات عامر بن سعد بن أبي وقاص. وفيها توفي موسى بن طلحة بن عبيد الله. وعمير مولى ابن عباس يكنى أبا عبد الله. وخالد بن معدان بن أبي كرب الكلاعي سكن الشام. ثم دخلت:

.سنة خمس ومائة:

.ذكر خروج عقفان:

في أيام يزيد بن عبد الملك خرج حروري اسمه عقفان في ثماني رجلاً، فأراد يزيد أن يرسل إليه جنداً يقاتلونه، فقيل له: إن قتل بهذه البلاد اتخذها الخوارج دار هجرة، والرأي أن تبعث إلى كل رجل من أصحابه رجلاً من قومه يكلمه ويرده. ففعل ذلك فقال لهم أهلوهم: إنا نخاف أن نؤخذ بكم. وأومنوا وبقي عفان وحده، فبعث إليه يزيد أخاه فاستعطفه فرده، فلما ولي هشام بن عبيد الملك ولاه أمر العصاة، فقدم ابنه من خراسان غاضباً، فشده وثاقاً وبعث به إلى هشام، فأطلقه لأبيه وقال: لو خاننا عقفان لكتم أمر ابنه. واستعمل عفان على الصدقة فبقي عليها إلى أن توفي هشام.

.ذكر خروج مسعود العبدي:

وخرج مسعود بن أبي زينب العبدي بالبحرين على الأشعث بن عبد الله ابن الجارود، ففارق الأشعث البحرين، وسار مسعود إلى اليمامة وعليها سفيان ابن عمرو العقيلي، ولاه إياها عمر بن هبية، فخرج إليه سفيان، فاقتتلوا بالخضرمة قتالاً شديداً، فقتل مسعود، وقام بأمر الخوارج بعده هلال بن مدلج فقاتلهم يومه كله، فقتل ناس من الخوارج وقتلت زينب أخت مسعود، فلما أمسى هلال تفرق عنه أصحابه وبقي في نفر يسير، فدخل قصراً فتحصن به، فنصبوا عليه السلاليم وصعدوا إليه فقتلوه واستأمن أصحابه فآمنهم؛ وقال الفرزدق في هذا اليوم:
لعمري لقد سلنت حنيفة سلةً ** سوفاً أبت يوم الوغى أن تغيرا

تركن لمسعود وزينب أخته ** رداء وسر بالاً من الموت أحمرا

أرين الحروريين يوم لقائهم ** ببرقان يوماً يجعل الموت أشقرا

وقيل: إن مسعوداً غلب على البحرين والمامة تسع عشرة سنة حتى قتله سفيان بن عمرو العقيلي.
الخضرمة بكسر الخاء وسكون الضاد المعجمتين، وكسر الراء.

.ذكر مصعب بن محمد الوالي:

كان مصعب من رؤساء الخوارج، وطلبه عمر بن هبيرة وطلب معه مالك بن الصعب وجابر بن سعد، فخرجوا واجتمعوا بالخورنق وأمروا عليهم مصعباً ومعه أخته آمنة وساروا عنه.
فلما ولي هشام بن عبد الملك واستعمل على العراق خالداً القسري سير إليهم جيشاً، وكانوا قد صاروا بحزة من أعمال الموصل، فالتقوا واقتتلوا، فقتل الخوارج، وقيل كان قتلهم آخر أيام يزيد بن عبد المكل، فقال فيهم بعض الشعراء:
فتية تعرف التخشع فيهم ** كلهم أحكم القرآن إماما

قد برى لحمه التهجد حتى ** عاد جلداً مصفراً وعظاماً

غادروهم بقاع حزة صرعى ** فسقى الغيث أرضهم يا إماما

.ذكر موت يزيد بن عبد الملك:

في هذه السنة توفي يزيد بن عبد الملك لخمس بقين من شعبان وله أربعون سنة، وقيل خمس وثلاثون سنة، وقيل غير ذلك، وكانت ولايته أربع سنين وشهراً وأياماً وكنيته أبو خالد، وكان مرضه السل.
وقيل: كان سبب موته أن حبابة لما ماتت وجد عليها وداً شديداً، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فخرج مشيعاً لجنازتها ومعه أخوه مسلمة بن عبد الملك ليسليه ويعزيه، فلم يحبه بكلمة، وقيل إن يزيد لم يطق الركوب من الجزع وعجز عن المشي فأمر مسلمة فصلى عليها، وقيل: منعه مسلمة عن ذلك لئلا يرى الناس منه ما يعيبونه به. فلما دفنت بقي بعدها همسة عشر يوماً ومات ودفن إلى جانبها، وقيل: بقي بعدها أربعين يوماً لم يدخل عليه أحد إلا مرة واحدة ولما مات صلى عليه أخوه مسلمة، وقيل: ابنه الوليد، وكان هشام بن عبد الملك بحمص.

.ذكر بعض سيرته:

كان يزيد من فتيانهم، فقال يوماً وقد طرب وعنده حبابة وسلامة القس: دعوني أطير قالت حبابة: على من تدع الأمة؟ قال: عليك؛ قيل وغنته يوماً:
وبين الترافي واللهاة حرارة ** ما تطمئن وما تسوغ فتبردا

فأهوى ليطير، فقالت: يا أمير المؤمنين إن لنا فيك حاجة. فقال: والله لأطيرن! فقالت: على من تخلف الأمة والملك؟ قال: عليك والله! وقبل يدها؛ فخرج بعض خدمه وهو يقول: سخنت عينك فما أسخفك! وخرجت معه إلى ناحية الأردن يتنزهان، فرماها بحبة عنب فدخلت حلقها فشرقت ومرضت وماتت، فتركها ثلاثة أيام لم يدفنها حتى أنتنت وهو يشمها ويقبلها وينظر إليها ويبكي، فكلم في أمرها حتى أذن في دفنها، وعاد إلى قصره كئيباً حزيناً، وسمع جاريةً له تتمثل بعدها.
كفى حزناً بالهائم الصب أن يرى ** منازل من يهوى معطلة قفرا

فبكى، وبقي يزيد بعد موتها سبعة أيام لا يظهر للناس، أشار عليه مسلمة بذلك وخاف أن يظهر منه ما سفهه عندهم.
وكان يزيد قد حج أيام أخيه سليمان فاشترى حبابة بأربعة آلاف دينار، وكان اسمها العالية، وقال سليمان: لقد هممت أن أحجر على يزيد فردها يزيد فاشتراها رجل من أهل مصر، فلما أفضت الخلافة إلى يزيد قالت امرأته سعدة: هل بقي من الدنيا شيء تتمناه؟ قال: نعم، حبابة. فأرسلت فاشترتها ثم صيغتها وأتت بها يزيد فأجلستها من وراء الستر وقالت: يا أمير المؤمنين هل بقي من الدنيا شيء تتمناه؟ قال: قد أعلمتك. فرفعت الستر وقالت: هذه حبابة، وقامت وتركتها عنده، فحظيت سعدة عنده وأكرمها. وسعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان. ولما مات يزيد لم يعلم بموته حتى ناحت سلامة فقالت:
لا تلمنا إن خشعنا ** أو هممنا بخسوع

قد لعمري بت ليلي ** كأخي الداء الوجيع

ثم بات الهم مني ** دون من لي بضجيع

ثم بات الهم مني ** دون من لي بضجيع

للذي حل بنا اليو ** م من الأمر الفظيع

كلما أبصرت ربعاً ** خالياً فاضت دموعي

قد خلا من سيدٍ كا ** ن لنا غير مضيع

ثم نادت: وا أمير المؤمنين أه! فعلموا بموته. والشعر لبعض الأنصار.
وأخبار يزيد مع سلامة وحبابة كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.
وإنما قيل لسلامة سلامة القس لأن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار أحد بني جشم بن معاوية بن بكير كان فقيهاً عابداً مجتهداً في العبادة، وكان يسمى القس لعبادته، مر يوماً بمنزل مولاها فسمع غناءها فوقف يسمعه، فرآه مولاها فقال له: هل لك أن تنظر وتسمع فأبى، فقال: أنا أقعدها بمكان لا تراها وتسمع غناءها؛ فدخل معه فغنته، فأعجبه غناؤها، ثم أخرجها مولاها إليه، فشغف بها وأحبها وأحبته هي أيضاً، وكان شاباً جميلاً. فقالت له يوماً على خلوة: أنا والله أحبك! قال: وأنا والله أحبك! قالت: وأحب أن أقبلك! قال: وأنا والله! قالت: وأحب أن أضع بطني على بطنك! قال: وأنا والله! قالت: فما منعك؟ قال: قول الله تعالى: {الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدو إلا المتقين} الزخرف: 67 وأن أكره أن تؤول خلتنا إلى عداوة؛ ثم قام وانصرف عنها وعاد إلى عبادته، وله فيها أشعار، منها:
ألم ترها لا يبعد الله دارها ** إذا طربت في صوتها كيف تصنع

تمد نظام القول ثم نرده ** إلى صلصلٍ من صوتها يترجع

وله فيها:
ألا قل هذا القلب هل أنت مبصر ** وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر

ألا ليت أني حيث صارت بها النوى ** جليس لسلمى كلما عج مزهر

إذا أخذت في الصوت كاد جليسها ** يطير إليها قبله حين ينظر

فقيل لها سلامة القس لذلك.
سلامة بتشديد اللام، وحبابة بتخفيف الباء الموحدة.